فصل: مطلب في الاصطفاء، ومن كمل من النساء، وما احتوت عليه هذه الآيات وما يتعلق بها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثالثة قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} الآية 43 من سورة البقرة المارة وهي مكررة كثيرا في المكي والمدني، فمن لم يزك كأنه لم يقم الصلاة.
وهنا يقال أربعة تحتاج إلى أربعة:
الحب إلى الأدب، 2- والسرور إلى الأمن، 3- والقرابة إلى المودة، 4- والعقل إلى التجربة.
وأربعة تؤدي إلى أربعة:
1- العقل إلى الرياسة، 2- والرأي إلى السياسة، 3- والعلم إلى التقوى، 4- والحلم إلى التوقير.
وهنا مثلثات أخر: المؤمن لا يخلو من قلة أو ذلة أو علة.
وثلاثة لا ينامون: البردان والخائف والجائع.
وثلاثة لا يبردون: الوجه والجاهل والمجنون، أي لا يعرفون البرد ولا مضرته.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني».
وقيل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ** هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيع

وعليه فإن من ادعى محبة الله وخالف سنة رسوله كان كاذبا في دعواه، لأن من أحب حبيبا أحب من يتصل به، حتى داره وكلبه، وقال العامري:
أمر على الديار ديار ليلى ** أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي ** ولكن حب من سكن الديارا

هذا وبعد أن بين الله تعالى لعباده طريق الظفر بمحبته وسبيل نيل رضوانه، أراد أن يبين لهم بعض من اصطفى من عباده فقال عز قوله: {إِنَّ الله اصْطَفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْراهِيمَ} إسماعيل وإسحاق ويعقوب {وَآلَ عِمْرانَ} موسى وهارون وأولادهم أو مريم وعيسى إذ قد يكون المراد بعمران والد مريم والأول أولى والله أعلم، واختارهم لذاته {عَلَى الْعالَمِينَ (33)} من أهل زمانهم وهذان الآلان النجيان كانا {ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ} على دين واحد وعقيدة واحدة {وَالله سَمِيعٌ} لمن يدعوه بنية خالصة {عَلِيمٌ (34)} بمن يؤهله لهذا الاصطفاء، لأنه أعلم حيث يجعل رسالته.
قال ابن عباس: قالت اليهود نحن من ذرية إبراهيم وإسحق وعلى دينهم، فأنزل الله هذه الآية ترد عليهم بأن الله اصطفى هذه الذرية للإسلام وإبراهيم كان مسلما، فلستم من ذريته ما دمتم على يهوديتكم.
واذكر يا سيد الرسل لقومك وأمتّك {إِذْ قالَتِ} حنّة بنت فاقوذ {امْرَأَتُ عِمْرانَ} بن باثان أحد رءوس بني إسرائيل، قالوا كان بينه وبين عمران والد موسى ألف وثمنمئة سنة، ومقول القول: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} عتيقا خالصا لعبادتك لا أسفله بشيء من أمور الدنيا {فَتَقَبَّلْ مِنِّي أنك أَنْتَ السَّمِيعُ} لدعائي {الْعَلِيمُ (35)} بنيتي وحقيقة نذري {فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَالله أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ} بأن هذه الأنثى خير من كثير من الذكور لما سيكون منها إلا أنه كان متعارفا عندهم أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة، لذلك قالت ما قالته على سبيل الاعتذار {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى} في جواز تحريرها وصلاحيتها للنبوة {وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ} ومعناه الخادمة والعابدة {وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها} أعيذها بك يا رب {مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36)} وأحصنها باسمك من غوايته فلا تجعل له سبيلا عليها.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما من بني آدم من مولود إلا نفسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من نخسه إياه إلا مريم وابنها».
ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم {وَإِنِّي أُعِيذُها} الآية.
قال تعالى مجيبا لهذه النادرة الكريمة {فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا} بأن غرس فيها الصلاح والعفّة والثقة بالله تقديرا لثقة أمها به وإخلاصها إليه وسلك بها طريق السعادة وسوى خلقها فنشأت كأحسن نساء زمانها {وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا} بأن جعله فيما عليها وضامنا لمصالحها وهو زوج خالتها إذ توفي والدها وهي في بطن أمها فتربت في حجرة تربية عالية، وناهيك بتربية معلمي الناس التربية حتى إذا كبرت بني لها محرابا في الكنيسة مرتفعا، وصار يتعاهدها وحده ويأتيها بطعامها وشرابها، وأول ما رأى من كرامتها على ربها أنه {كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقًا} فاكهة بغير أولها ولما تكررت رؤيته لتلك {قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا} الرزق ومن أين أتاك ومن الذي جاءك به وهو لا يوجد لفوات موسمه وعدم حلول أوانه {قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله} لأني أراه بحضر إلى دون أن يأتي به أحد ولا تعجب أيها العم {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)} ومن حيث لا يحتسب الإنسان بمحض الفضل مما لا يدخل تحت عد أو حصر من شيء لا ينقص ولا يحد أي أنه من ثمر الجنة إذ لا يوصف غيره بما ذكر وهذا من الإحسان الذي يأتي بلا كسب ولا عناء.

.مطلب ولادة مريم من حنة وتزويج زكريا من إيشاع وقصتهما وما يتعلق فيهما:

وخلاصة هذه القصة على ما ذكروا أن زكريا عليه السلام بن آذن بن مسلمة ابن حبرون من أولاد سليمان عليه السلام تزوج إيشاع اخت حنه أم مريم عليها السلام وكانت حنة زوجة عمران أيست من الولادة فبينما هي في ظل شجرة، رأت طائرا يطعم فرخا فتحركت نفسها ودعت الله أن يهب لها ولدا على أن تتصدق به إلى بيت المقدس سادنا، فحملت بمريم فأخبرت زوجها فقال ويحك كيف إذا جئت بأنثى؟
فاهتمّا لذلك ثم مات عمران ووضعت بعده مريم فاعتذرت إلى ربها وهو عالم بذلك فسمتها العابدة أو الخادمة وتضرعت إلى الله أن يعصمها ويجعلها صالحة لأنها من بيت الصالحين فلفتها وألقتها في المسجد لدى سدنته من آل هرون، وحيث كان أبوها امامهم أراد كل منهم ضمها إليه ليربيها، فاقترعوا عليها وألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها في نهر الأردن، على أن الذي يظهر قلمه تكون له، فرست كلها وهي تسع وعشرون قلما وطاف قلم زكريا فقط، فأخذها وتكفل بها وتقبلها الله منه ورضيها وأنشأها نشأه حسنة طاهرة مرضية كما ذكر الله، ولما رأى زكريا ما عندها من الفاكهة كما مر في الآية وأن أمها ولدتها بعد الكبر واليأس وكان هو أيضا لم يأته ولد، طمع في ربه عز وجل وقال الذي يقدر على هذا قادر على أن يعطيني ولدا على شيخوختي وانقراض أهل بيتي، قال تعالى: {هُنالِكَ} في ذلك الوقت الذي رأى فيه معجزة الولادة مع الكبر ومعجزة وجود الفاكهة بغير أوانها وكل ذلك على خلاف العادة فقد حدا به الحال إلى أن {دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} وهو جالس في محراب مريم {قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أنك سَمِيعُ الدُّعاءِ (38)} فأجابه عزّ وجل بقوله: {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} جبريل عليه السلام ومرافقوه {وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ} نفسه حالا وقالوا له {أَنَّ الله يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى} سماه بهذا الاسم لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه وكبر أبيه {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله} أي بعيسى عليه السّلام ابن خالته، لأنه كان بكلمة كن من غير أب فوقع عليه اسم الكلمة ولأن الله تعالى بشر به أمه على لسان جبريل فسمي كلمة، ولأن الله أوحى إلى الأنبياء قبله في الكتب المنزلة أنه يخلق نبيا من غير أب، فلما ولد قالت الأحبار المطلعون على ذلك هذا هو ملك الكلمة أي الوعد الذي وعد الله به، قالوا وولد قبل عيسى بستة أشهر، وهو أول من آمن به، وان عيسى تعمد عنده، وقتل يحيى قبل رفع عيسى إلى السماء كما مر بيانه، وسبب قتله في الآية 7 من سورة الإسراء {وَسَيِّدًا} رئيسا ليسود الناس لأنه من بيت الأسياد، وعظيما جليلا مهابا {وَحَصُورًا} لا يأتي النساء هضما لنفسه مع القدرة على الجماع، لأن العنّة نقص والأنبياء مبرءون من النقص المادي والمعنوي {وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (29)} لإرشاد عبادك وإعلاء كلمتك، أي مرسلا لا نبيا فقط {قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ} وهاتان الحالتأن لا يتأتى معهما حصول الولد إلا علي طريق خرق العادة وهو من عادتك {قالَ كَذلِكَ} مثل هذا الفعل الخطير الذي يعجز عنه البشر يحدثه ربك {الله} العظيم الذي {يَفْعَلُ ما يَشاءُ} بأن يهب لكما ولدا وأنتما على حالتكما هذه.
قالوا وكان عمره مائة وعشرين سنة، وعمر زوجته ثمانيا وتسعين سنة، وقوله هذا ليس على طريق الاستبعاد بل استعظاما للقدرة واعتذارا منه عز وجل، لأنه يعلم أن ربه قادر على أكثر من ذلك، ولكن الذي ساقه على ذلك عظم سروره وشدة فرحه بإجابة دعوته حدث به إلى ذلك، والتذاذه بسماع كلام ربه، عدا ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله بأنه كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة، وانه نسي السؤال وقت البشارة ولذلك استبعد شيئا على خلاف جريان العادة، ينفيه وجود الفاء الدالة على التعقيب بلا فاصلة تأمل.
وما قيل إن الخطاب الأخير كان مع الملائكة يرده صراحة القول باسم (رَبِّ) وإياك أيها العاقل أن يخطر ببالك معنى الشك، فإن ساحة الأنبياء مبرأة منه البتة، فاحذر أن يحوك في صدرك شيء من هذا، قالوا أزال الله عقمهما وكبرهما وجعلهما صالحين لذلك، راجع الآية 90 من سورة الأنبياء، إذ قال فيها {وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ} قال بعضهم بقيا على حاهما وهو أبلغ في القدرة وأعجب، ولكن الأول أولى لصراحة القرآن بالإصلاح، وكلتا الحالتين عند الله سواء، إذ لا يعجزه شيء {قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} على حمل زوجتي {قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} أي لا تقدر على تكليم أحد خلاها شفاها راجع الآية 10 من سورة مريم وأفضل العبادة الصمت وانتظار الفرج.
قالوا ولما حملت عقد لسانه إلا عن ذكر الله كما جاء في قوله عزّ قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ} (41) وهذه من المعجزات الباهرة لأن قدرته على الذكر دون الكلام مع الناس أمر خارق للعادة وإنما منع من الكلام ليخلص العبادة للّه على هذه النعمة، وكان يشير لمن يكلمه بالمسبحة لأن الرمز هو الإشارة باليد أو بإحدى الأصابع أو العين أو الحاجب أو الرأس.
ومن قال إن صومهم كان بلا كلام خالف صريح القرآن من غير حاجة إلى العدول عن ظاهره وهو لا يجوز.

.مطلب في الاصطفاء، ومن كمل من النساء، وما احتوت عليه هذه الآيات وما يتعلق بها:

قال تعالى: {وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ الله اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ} من الحيض والنفاس ومس الرجال ومن الذنوب والنقائص، لأنك ربيت في المسجد بكفالة أكبر الأنبياء فيه، لأنه لم يخصص لخدمة البيت أنثى غيرك {عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)} من أهل زمانك، وخصك بالإتيان بولد من غير زوج وبإسماع كلام الملائكة المقدم بالآية السابقة وفي قوله: {يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} اخضعي وأديمي القيام في الصلاة لمولاك الذي شرفك بهذه النعم {وَاسْجُدِي} له سجود تعظيم وعبادة {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} للّه، قالوا قامت في عبادة ربها حتى تورمت قدماها وسالت قيحا، وكانت صلاتهم سجودا بلا ركوع وبعدها ركوعا بلا سجود، فأمرها بهما معا ولم نجمع قبل إلا لها، وجمعت لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم وصارت على هذه الصفة الحاضرة الآن بتعليم جبريل عليه السلام دون سائر الأمم، وسندوم إلى يوم القيامة إن شاء الله {ذلِكَ} الذي قصصناه عليك يا سيد الرسل هو {مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} لتذكره لأمتك وأهل الكتابين ليعلموا أنه من غيب الله لأنك لا تقرأ ولا تكتب {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ} أي الأنبياء والأحبار الموجودين في البيت المقدّس حينما تشاوروا على طلب مريم كفالتها وحينما افترعوا على تربيتها {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} في النهر ليظهر لهم {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} فيكون أهلا لتربيتها {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ} حاضرا معهم {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (44) في شأنها، وقد أخبرناك به لنخبر به قومك وخاصة أهل نجران الذين جاءوا ليختبروك فيستدلوا به على نبوتك.
روى البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول خير نسائها (أي الأرض في عصرها) مريم بنت عمران وخير نسائها (أي على الإطلاق) خديجة بنت خويلد.
لا تدخل فاطمة رضي الله عنها لأنها كانت صغيرة حين هذا القول وهي أفضل نساء الدنيا والآخرة.
ورويا عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلّا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
وليس في هذا الحديث ما يدل على تفضيلها على خديجة وفاطمة رضي الله عنهن، كما ليس فيه ما يدل على تفضيلها على مريم وآسية بل على من عداهما في زمانهما، يدل على هذا ما أخرج الترمذي عن أنس قال: قال صلّى الله عليه وسلم حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون إذ لم يذكر عائشة معهن، تدبر.
قال بعضهم:
ولو أن النساء كمن ذكرنا ** لفضلت النساء على الرجال

فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ** ولا التذكير فخر للهلال

ويفهم من هذا أن الاصطفا من قبل الله لأحد من خلقه لا يقتضي كونه نبيا، لأن مريم متفق على عدم نبوتها وعلى عدم صلاحية الأنثى للنبوة، ولهذا فلا يكون أيضا سببا للعصمة لأنها خاصة بالأنبياء بعد النبوة، وإنما يفيد البشارة لشموله بعين الرضاء، ومن شملته عناية الرضاء فقد نجا، وتدل على أن الرزق قد يكون بلا سبب كما وقع لمريم، ومن جحد هذا كان جاحدا لقدرة الله وهو كفر، وعلى أن صلاح الآباء ودعاءهم لأولادهم يعود عليهم بالخير كما سيأتي في الآية 26 من سورة الرعد ولآية 25 من سورة محمد الآتيتين، وتفد جواز النذر ووجوب الوفاء به إذا كان فربة للّه تعالى، أما إذا خصص ببشر فلا، لأنه من نوع العبادة ولا تكون إلا للّه كما سنفصله في الآية 30 من سورة الحج الآتية إن شاء الله، وترمي إلى جواز تأديب الولد وتربيته راجع الآية 12 فما بعدها من سورة لقمان، وتشير إلى تعليمه من قبل أمه وتسميته حال فقد أبيه، وتوجب على الخلق الإيمان بقدرة الله فيما هو خارج عن نطاق العقل كوجود ولد بلا أب مثل عيسى عليه السلام، وان إنكاره كفر صريح، وترشد إلى أن صدور الدعاء مع الثقة بالله في وقت الحاجة لابد وأن يجيبه الله تعالى تفضلا منه وبرّا بوعده المار ذكره في الآية 187 من سورة البقرة المارة، والآية 10 من سورة المؤمن، وتنبيه إلى عدم استبعاد الإجابة ولو كانت محالا إذ لا محال على الله، وعلى الداعي أن يربط قلبه بالأسباب الظاهرة، لأن الله يعطي بلا سبب ويمنع بلا سبب، ومن السخف ما جرى على ألسنة الجهلة من قولهم قال الله: {وجعلنا لكل شيء سببا} مع أن الله لم يقل هذا في كتابه، فهو كذب على الله وإنما قال في سورة الكهف {وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} يعني ذا القرنين الآية 84، وترمي إلى أن الله تعالى إذا اختار أحدا من خلقه رفع قدره وحفظه وعمل على يده العجائب، وان الاصطفاء مهما كان لنبي أو وليّ لا يسقط عنه التكليف كما يزعمه بعض الجهلة المتصرفة بل قد يزيد عليه من التكاليف الشرعية لتزداد رغبته وتعلو رتبته عند ربه، إذ ليس أحد في غنى عن الكمال الأنبياء فمن دونهم، كما ليس لأحد أن يستغني عن الإكنار من الطاعة.
ثم طفق جل شأنه بعدد ما أنعم به على مريم فقال يا سيد الرسل اذكر لقومك {إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} كون منها ولدا بلا بعل {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أي معروف بهذه الجملة، وأصل عيسى يشوع إذ لا سبن في اللغة العبرية ولهذا يسمون موسى موشى والمسيح مشيح ومعناه الصديق الذي تمس يده ذوي العاهات فتبرئهم.
أما تسمية الدجال مسيحا لأنه ممسوح العين اليمنى كذاب يخرج آخر الزمان فينزل عيسى إذ ذاك من السماء فيقتله، وكان السيد عيسى عليه السّلام في زمنه صديقا كاسمه ولا يزال {وَجِيهًا} ذا جاه سام ورفعة عالية وقدر كريم وسماة شريفة ووجاهة عالية {فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)} عند الله، وفيها إشارة إلى رفعه إلى السماء كما سيأتي بعد عشر آيات، ومن خصائصه أنه معظم عند ربه {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} قبل أو ان كلام مثله راجع الآية 20 من سورة مريم إذ تكلم ببراءة أمه مما رميت فيه وهو رضيع قريب عهد بالولادة {وَكَهْلًا} بإنذارهم وبشارتهم إذ يرسله الله بعد إكمال الثلاثين من عمره، والكهل من اجتمعت قراه وكمل شبابه وتجاوز الثلاثين من عمره.